فصل: تفسير الآية رقم (39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}
قوله تعالى: {اثاقلتم}: أصلُه تثاقلتم، فلمَّا أريد الإِدغامُ سَكَنت الياءُ فاجتُلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم ذلك في {فادارأتم} [البقرة: 72]، والأصل: تدارأتم.
وقرأ الأعمش: {تثاقلتم} بهذا الأصل، و{ما} في قوله: {ما لكم} استفهامية وفيها معنى الإِنكار. وقيل: فاعله المحذوف هو الرسول.
و{اثَّاقلتم} ماضي اللفظ مضارع المعنى أي: يتثاقلون، وهو في موضع الحال، وهو عاملٌ في الظرف أي: مالكم متثاقلين وقت القول. وقال أبو البقاء: {اثَّاقلتم}: ماض بمعنى المضارع أي: مالكم تتثاقلون وهو في موضع نصب أي: أيُّ شيء لكم في التثاقل، أو في موضع جر على رأي الخليل. وقيل: هو في موضع حال قال الشيخ: وهذا ليس بجيدٍ، لأنه يلزمُ منه حذفُ أَنْ، لأنه لا يَنْسِبُك مصدرٌ إلا من حرفٍ مصدري والفعل، وحَذْفُ أَنْ في نحو هذا قليلٌ جدًا، أو ضرورة، وإذا كان التقديرُ: في التثاقل فلا يمكن عملُه في {إذا}، لأنَّ معمول المصدرِ الموصول لا يتقدَّم عليه، فيكون الناصب لـ {إذا} والمتعلَّق به في التثاقل ما تعلَّق به {لكم} الواقعُ خبرًا لـ {ما}.
وقرئ {اثَّاقَلْتم} بالاستفهام الذي معناه الإِنكار، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يَعْمل في {إذا}؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله، فيكون العاملَ في هذا الظرف: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرَ في {لكم}، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللفظ. والتقدير: ما تصنعون إذا قيل لكم. وإليه نحا الزمخشري. والظاهر أن يُقَدَّر: ما لكم تثاقلون إذا قيل، ليكون مدلولًا عليه من حيث اللفظُ والمعنى.
وقوله: {إِلَى الأرض} ضُمِّنَ معنى المَيْل والإِخلاد. وقوله: {من الآخرة} تظاهَرَتْ أقوالُ المُعْربين والمفسرين على أنَّ {مِنْ} بمعنى بدل كقوله: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} [الزخرف: 60] أي: بدلكم، ومثلُه قولُ الآخر:
جاريةٌ لم تَأْكُلِ المُرَقَّقا ** ولم تَذُقْ من البُقول الفُسْتُقا

وقول الآخر:
فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمَ شَرْبةً ** مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانِ

إلا أنَّ أكثرَ النحويين لم يُثْبتوا لها هذا المعنى، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك والتقديرُ هنا: اعتَصَمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياة وكذلك باقيها. وقال أبو البقاء: مِن الآخرة في موضع الحال أي: بدلًا من الآخرة، فقدَّر المتعلَّقَ خاصًا، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى.
قوله: {فِي الآخرة} متعلقٌ بمحذوفٍ من حيث المعنى تقديره: فما متاعُ الحياة الدنيا محسوبًا في الآخرة. فمحسوبًا حالٌ مِنْ {متاع}. وقال الحوفي: إنه متعلق بقليل وهو خبر المبتدأ.
قال: وجاز أن يتقدَّمَ الظرفُ على عامله المقرونِ بـ {إلا} لأنَّ الظروفَ تعمل فيها روائحُ الأفعال. ولو قلت: ما زيدٌ عمرًا إلا يَضْرب لم يَجُزْ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}
عاتَبهم على تَركِ البدار عند توجيه الأمر، وانتهاز فُرْصَةِ الرُّخصَة.
وأَمَرَهم بالجد في العزم، والقَصْدِ في الفعل؛ فالجنوحُ إلى التكاسل، والاسترواحُ إلى التثاقل أماراتُ ضعفِ الإيمان إذ الإيمان غريمٌ مُلازِمٌ لا يرضى من العبد بغير ممارسة الأشْقِّ، وملابسة الأحَقِّ.
قوله: {أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا}: وهل يَجْمُل بالعابِد أَنْ يختارَ دنياه على عقْباه؟
وهل يحسُن بالعارف أَنْ يُؤْثِرَ هواه على رضا مولاه؟ وأنشدوا:
أيجملُ بالأحبابِ ما قد فعلوا ** مضَوْا وانصرفوا يا ليتهم قَفَلُوا

إنَّ غيبةَ يوم للزاهد عن الباب تَعْدِل شهورًا، وغيبةُ لحظةٍ للعارف عن البِساط تعدل دهورًا، وأنشدوا:
الإلْفُ لا يصْبِرُ عن إِلْفِه ** أَكْثَرَ من طَرْفَةِ عَيْنِ

وقد صبَرْنا عَنكُمُ ساعةً ** ما هكذا فِعْلُ مُحِبيْنِ

اهـ.

.تفسير الآية رقم (39):

قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان طول الاستعطاف ربما كان مدعاة للخلاف وترك الإنصاف، توعدهم بقوله: {إلا تنفروا} أي في سبيله {يعذبكم} أي على ذلك {عذابًا أليمًا} أي في الدارين {ويستبدل} أي يوجد بدلًا منكم {قومًا غيركم} أي ذوي بأس ونجدة مخالفين لكم في الخلال التي كانت سببًا للاستبدال لولايته ونصر دينه.
ولما هددهم بما يضرهم، أخبرهم أنهم لا يضرون بفتورهم غير أنفسهم فقال: {ولا تضروه} أي الله ورسوله {شيئًا} لأنه متم أمره ومنجر وعده ومظهر دينه؛ ولما أثبت بذلك قدرته على ضره لهم وقصورهم عن الوصول إلى ضره، كان التقدير: لأنه قادر على نصر دينه ونبيه بغيركم، فعطف عليه تعميمًا لقدرته ترهيبًا من عظيم سطوته قوله: {والله} أي الملك الذي له الإحاطة الكاملة {على كل شيء قدير}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}
وفي الآية مسائل:

.المسألة الأولى: [في الأمور المقوية على الجهاد]:

اعلم أنه تعالى لما رغبهم في الآية الأولى في الجهاد بناء على الترغيب في ثواب الآخرة، رغبهم في هذه الآية في الجهاد بناء على أنواع أخر من الأمور المقوية للدواعي، وهي ثلاثة أنواع: الأول: قوله تعالى: {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.
واعلم أن يحتمل أن يكون المراد منه عذاب الدنيا، وأن يكون المراد منه عذاب الآخرة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم فتثاقلوا، فأمسك الله عنهم المطر.
وقال الحسن: الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم.
وقيل المراد منه عذاب الآخرة إذ الأليم لا يليق إلا به.
وقيل إنه تهديد بكل الأقسام، وهي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وقطع منافع الدنيا ومنافع الآخرة.
الثاني: قوله: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} والمراد تنبيههم على أنه تعالى متكفل بنصره على أعدائه، فإن سارعوا معه إلى الخروج حصلت النصرة بهم، وإن تخلفوا وقعت النصرة بغيرهم، وحصل العتبى لهم لئلا يتوهموا أن غلبة أعداء الدين وعز الإسلام لا يحصل إلا بهم، وليس في النص دلالة على أن ذلك المعنى منهم، ونظيره قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِ الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ثم اختلف المفسرون فقال ابن عباس: هم التابعون وقال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس.
وقال أبو روق: هم أهل اليمن، وهذه الوجوه ليست تفسيرًا للآية، لأن الآية ليس فيها إشعار بها، بل حمل ذلك الكلام المطلق على صورة معينة شاهدوها.
قال الأصم: معناه أن يخرجه من بين أظهركم، وهي المدينة.
قال القاضي: هذا ضعيف لأن اللفظ لا دلالة فيه على أنه عليه السلام ينقل من المدينة إلى غيرها، فلا يمتنع أن يظهر الله في المدينة أقوامًا يعينونه على الغزو، ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضًا حال كونه هناك، والثالث: قوله: {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} والكناية في قول الحسن: راجعة إلى الله تعالى، أي لا تضروا الله لأنه غني عن العالمين، وفي قول الباقين يعود إلى الرسول، أي لا تضروا الرسول لأن الله عصمه من الناس، ولأنه تعالى لا يخذله إن تثاقلتم عنه.
ثم قال: {والله على كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ} وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز، فإذا توعد بالعقاب فعل.

.المسألة الثانية: [فيمن قال بنسخ الآية]:

قال الحسن وعكرمة: هذه الآية منسوخة بقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} [التوبة: 122] قال المحققون: إن هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا، وعلى هذا التقدير فلا نسخ.
قال الجبائي: هذه الآية تدل على وعيد أهل الصلاة حيث بين أن المؤمنين إن لم ينفروا يعذبهم عذابًا إليمًا وهو عذاب النار، فإن ترك الجهاد لا يكون إلا من المؤمنين، فبطل بذل قول المرجئة إن أهل الصلاة لا وعيد لهم، وإذا ثبت الوعيد لهم في ترك الجهاد فكذا في غيره، لأنه لا قائل بالفرق، واعلم أن مسألة الوعيد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة.

.المسألة الثالثة: [دلالة الآية على وجوب الجهاد مطلقًا]:

قال القاضي: هذه الآية دالة على وجوب الجهاد، سواء كان مع الرسول أو لا معه، لأنه تعالى قال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا} ولم ينص على أن ذلك القائل هو الرسول.
فإن قالوا: يجب أن يكون المراد هو الرسول لقوله تعالى: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} ولقوله: {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} إذ لا يمكن أن يكون المراد بذلك إلا الرسول.
قلنا: خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها على ما قررنا في أصول الفقه. اهـ.